كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثمّ أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت منهم، ثمّ أمر بهم حتى أُخرجوا من عنده، وانطلق دقيانوس إلى مدينة سوى مدينتهم التي كانوا بها قريبًا منهم لبعض أُموره، فلما رأى الفتية أن دقيانوس قد خرج من مدينتهم بادروا قدومه، وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم، فائتمروا بينهم أن يأخذ كلّ رجل نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا بها ويتزوّدوا مما بقي، ثمّ ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له ينجلوس فيمكثون فيه، ويعبدون الله عزّ وجلّ، حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما شاء.
فلما قال ذلك بعضهم لبعض، عمد كلّ فتى منهم إلى بيت أبيه وأخذ نفقة فتصدّقوا بها، انطلقوا بما بقي معهم من نفقتهم، وأتبعهم كلب كان لهم، حتى إذا أتوا ذلك الكهف الذي في ذلك الجبل تلبثوا فيه.
وقال كعب الأحبار: مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه، فعاد ففعلوا ذلك مرارًا، فقال لهم الكلب: ما تريدون منّي؟ لا تخشون إجابتي.
أنا أُحب أحبّاء الله، فناموا حتى أحرسكم.
وقال ابن عباس: هربوا ليلًا من دقيانوس بن جلانوس حيث دعاهم إلى عبادة الأصنام، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب، وكان على دينهم، فخرجوا من البلد فأووا إلى الكهف، وهو قريب من البلدة، فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلاّ الصلاة والتسبيح والتكبير والتّحميد ابتغاء وجه الله تعالى، فجعلوا نفقتهم إلى فتىً منهم يُقال له تمليخا، فكان على طعامهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرًّا، وكان من أجملهم وأجلدهم. وكان تمليخا يصنع ذلك، فإذا دخل البلد يضع ثيابا كانت عليه حسانًا، ويأخذ ثيابًا كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها، ثمّ يأخذ ورقة فينطلق إلى المدينة فيشتري طعامًا وشرابًا ويسّمّع ويتجسس لهم الخبر: هل ذكروا أصحابه بشيء؟ ثمّ يرجع إلى أصحابه.
فلبثوا بذلك ما لبثوا، ثمّ قدم دقيانوس الجبّار إلى المدينة فأمر العظماء فذبحوا للطواغيت، ففزع من ذلك أهل الإيمان، وكان تمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم وشرابهم، فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل، فأخبرهم أنّ الجبّار دقيانوس قد دخل المدينة، وأنهم ذُكروا والتُمسوا مع عظماء المدينة ليذبحوا للطواغيت. فلما أخبرهم فزعوا ووقعوا سجودًا يدعون الله عز وجّل ويتضرّعون ويتعوّذون به من الفتنة.
ثمّ إنّ تمليخا قال لهم: ارفعوا رؤوسكم فاطعموا من رزق الله وتوكلّوا على بارئكم. فرفعوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا وخوفًا على أنفسهم، فطعموا منه وذلك مع غروب الشمس. ثمّ جلسوا يتحدّثون ويتدارسون ويذكر بعضهم بعضًا، فبينا هم على ذلك إذ ضرب الله على آذانهم في الكهف وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف، فأصابه ما أصابهم، وهم مؤمنون موقنون، ونفقتهم عند رؤوسهم. فلما كان من الغد تفقّدهم دقيانوس والتمسهم فلم يجدهم، فقال لبعضهم: لقد ساءني هؤلاء الفتية الذين ذهبوا، لقد كانوا ظنوني غضِبًا عليهم بجهلهم ما جهلوا من أمري، ما كنت لأحمل عليهم في نفسي ولا لواحد منهم إن تابوا وعبدوا آلهتي فقال له عظماء المدينة: ما أنت بحقيق أن ترحم قومًا فجرة مردة عصاة مقيمين على ظلمهم ومعصيتهم، وقد كنت أجّلت لهم أجلًا، فلوا شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل، ولكنّهم لم يتوبوا.
فلما قالوا له ذلك غضب غضبًا شديدًا، ثمّ أرسل إلى آبائهم فسألهم عنهم، فقال: أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني. فقالوا له: أمّا نحن فلم نعصك، فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا بأموالنا وأهلكوها في أسواق المدينة ثمّ انطلقوا فارتقوا إلى جبل يدعى ينجلوس؟ فلما قالوا له ذلك خلّى سبيلهم، وجعل لا يدري ما يصنع بالفتية، فألقى الله عز وجّل في نفسه أن يأمر بالكهف فيُسد عليهم، أراد الله عز وجل أن يكرمهم ويجعلهم آية لأُمّة يَستخلف من بعدهم، وأن يبين لهم أن الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور.
فأمر دقيانوس بالكهف أن يسد عليهم، وقال: دعوهم كما هم في الكهف يموتوا عطشًا وجوعًا، وليكن كهفهم الذي اختاروا قبرًا لهم. وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم، قد توفى الله أرواحهم وفاة النوم وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد، بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم، يتقلّبون ذات اليمين وذات الشمال.
ثمّ إن رجلين مؤمنين كانا في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما، اسم أحدهما بيدروس، واسم الآخر روتاس ائتمرا أن يكتبا شأن الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم في لوح من رصاص يجعلانه في تابوت من نحاس، ثمّ يجعلان التابوت في البنيان، وقالا: لعل الله يظهر على هؤلاء الفتية قومًا مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من فتح عليهم خبرهم حين يقرأ هذا الكتاب. ففعلا، ثمّ بنيا عليه، فبقي دقيانوس ما بقي، ثمّ مات وقومه وقرون بعد كثيرة، وخلفت الملوك بعد الملوك.
وقال عبيد بن عمير: كان أصحاب الكهف فتيانًا مطوّقين مسوّرين ذوي ذوائب، وكان معهم كلب صيدهم، فخرجوا في عيد لهم عظيم في زيّ وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، وقد قذف الله في قلوب الفتية الإيمان وكان أحدهم وزير الملك فآمنوا، وأخفى كل واحد منهم الاِيمان عن صاحبه فقالوا في أنفسهم من غير أن يظهر بعضهم لبعض: نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة فجلس فيه، ثمّ خرج آخر فرآه جالسًا وحده، فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر ذلك، فجلس إليه ثمّ خرج الآخرون فجاؤوا فجلسوا إليهما، فاجتمعوا وقال بعضهم لبعض: ما جمعكم، وكل واحد يكتم إيمانه على صاحبه مخافة على نفسه؟ ثمّ قالوا: ليخرج كل فتيين منكم فيخلوَا ثمّ ليفششِ كل واحد منكم إلى صاحبه.
فخرج فتيان منهم فتواقفا ثمّ تكلّما فذكر كل واحد منهما أمره لصاحبه، فأقبلا مستبشرين إلى أصحابهما فقالا: قد اتفقنا على أمر واحد. فإذا هم جميعًا على الإيمان، وإذا كهف في الجبل قريب منهم، فقال بعضهم لبعض: {فَأْوُوا إِلَى الكهف يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقًا}. فدخلوا ومعهم كلب صيد، فناموا {ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعًا}.
قال: وفقدهم قومهم، وطلبوهم فعمّى الله عليهم آثارهم وكهفهم، فلما لم يقدموا كتب أحدهم في لوح: فلان وفلان أبناء ملوكنا، فقدناهم في شهر كذا من سنة كذا في مملكة فلان بن فلان. ووضعوا اللوح في خزانة الملك وقالوا: ليكوننّ لهذا شأن. ومات ذلك الملك، وجاء قرن بعد قرن.
وقال وهب بن منبّه: جاء أحد حواريّ عيسى بن مريم عليه السلام الى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إن على بابها صنمًا لا يدخلها أحد إلاّ سجد له.
فكره أن يدخلها فأتى حمّامًا قريبًا من تلك المدينة، فكان فيه، وكان يؤاجر نفسه من الحمامي ويعمل فيه.
ورأى صاحب الحمام في حمامه البركة، ودرّ عليه الرزق، وجعل يقوم عليه، وعلقه فتية من أهل المدينة، فجعل يخبرهم خبر السماء وخبر الأرض وخبر الآخرة حتى آمنوا به وصدّقوه، وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة. وكان شرطه على صاحب الحمام: إن الليل لي لا يحول بيني وبين الصلاة أحد، وكان على ذلك حتى أتى ابن الملك بامراة فدخل بها الحمام، فعيّره الحواري وقال له: أنت ابن الملك وتدخل مع هذه؟ فاستحيا، فذهب، فرجع مرّة أُخرى فقال له مثل ذلك، فسبّه وانتهره ولم يلتفت حتى دخلا معًا فماتا جميعًا في الحمام، فأُتي الملك فقيل له: قتل صاحب الحمام ابنك. فالتُمس فلم يُقدر عليه، فهرب، فقال: من كان يصحبه؟ فسمّوا الفتية فالتُمسوا فخرجوا من المدينة، فمرّوا بصاحب لهم في زرع وهو على مثل إيمانهم فذكروا له أنهم التُمسوا، فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل إلى الكهف فدخلوا وقالوا: نبيت هاهنا الليلة، ثمّ نصبح إن شاء الله فترون رأيكم. فضرب الله على آذانهم.
فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف، وكلّما أراد الرجل منهم دخوله أُرعب، فلم يطق أحد دخوله، وقال قائل: أليس لو قدرت عليهم قتلتهم؟ قال: بلى. قال: فابنِ عليهم باب الكهف واتركهم فيه يموتوا عطشًا وجوعًا. ففعل.
قال وهب: تركهم بعد ما سدّ عليهم باب الكهف زمانًا بعد زمان، ثمّ إنّ راعيًا أدركه المطر عند الكهف فقال: لو فتحت هذا الكهف فادخلته غنمي من المطر فلم يزل يعالجه حتى فتح، وردّ الله إليهم أرواحهم من الغد حين أصبحوا.
وقال محمد بن إسحاق: ثمّ ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له تيدوسيس، فلما ملك بقي في ملكه ثمانيًا وثلاثين سنة فتحزب الناس في ملكه، وكانوا أحزابًا؛ منهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق، ومنهم من يكذّب بها، فكبر ذلك على الملك الصالح، وبكى إلى الله عز وجّل، وتضرّع إليه، وحزن حزنًا شديدًا. فلما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون: لا حياة إلاّ الحياة الدنيا، وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد فأما الجسد فتأكله الأرض. ونسوا ما في الكتاب، فجعل تيدوسيس يرسل إلى من يظن فيه خيرًا وأنه معه في الحق، فجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا يحولون الناس عن الحقّ وملّة الحواريين.
فلما رأى ذلك الملك الصالح تيدوسيس دخل بيته وأغلقه عليه ولبس مسحًا وجعل تحته رمادًا ثمّ جلس عليه فدأب ليله ونهاره زمانًا يتضرع إلى الله ويبكي مما يرى فيه الناس، ويقول: أي رب، قد ترى اختلاف هؤلاء الناس، فابعث إليهم من يبين لهم.
ثمّ إن الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة العباد أراد أن يظهر على الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية له وحجة عليهم، وليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن يستجيب لعبده الصالح تيدوسيس ويتم نعمته عليه، ولا ينزع عنه ملكه ولا الإيمان الذي أعطاه، وأن يعبد الله ولا يشرك به شيئًا، وأن يجمع من كان ببلده من المؤمنين.
فألقى الله عز وجّل في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي به الكهف وكان اسم ذلك الرجل أولياس أن يهدم ذلك البنيان الذّي على فم الكهف، فيبني به حظيرة لغنمه، فأستاجر عاملين فجعلا ينزعان تلك الحجارة ويبنيان بها تلك الحظيرة حتى نزعا ما على فم الكهف، وفتحا عليهم باب الكهف، فحجبهم الله تعالى من الناس بالرعب. فيزعمون أن أشجع من يريد أن ينظر إليهم أن يدخل من باب الكهف لم يتقدم حتى يرى كلبهم دونهم إلى باب الكهف، نائمًا.
فلما نزعا الحجارة وفتحا باب الكهف أذن الله عز وجّل بالقدرة والعظمة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهراني الكهف، فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم، فسلّم بعضهم على بعض كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون بها إذا أصبحوا من ليلتهم التي يبيتون فيها. ثمّ قاموا إلى الصلاة فصلوا كالذي كانوا يفعلون، لا يُرى في وجوههم ولا أبشارهم ولا ألوانهم شيء ينكرونه، وإنما هم كهيئتهم حين رقدوا، وهم يرون أن ملكهم دقيانوس الجبّار في طلبهم.
فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم: إيتنا يا أخانا ما الذي قال الناس في شأننا عشية أمسِ عند هذا الجبّار وهم يظنون أنهم قد رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون، وقد خيّل إليهم أنهم قد ناموا كأطول ما كانوا ينامون في الليلة التي أصبحوا فيها، حتى تساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض: {كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ}.
وكل ذلك في أنفسهم يسير، فقال لهم تمليخا: افتقدتم والتُمستم بالمدينة وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم فتذبحوا للطواغيت أو يقتلكم، فما شاء الله بعد ذلك فعل. فقال لهم مكسلمينا: يا إخوتاه، اعلموا أنكم ملاقو الله، فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم غدًا. ثمّ قالوا لتمليخا: انطلق إلى المدينة فتسمّع ما يقال عنّا بها اليوم وما الذي نُذكر به عند دقيانوس، وتلطف ولا تشعرنّ بنا أحدًا، وابتع لنا طعامًا فائتنا به، فإنه قد نالنا الجوع، وزدنا على الطّعام الذي جئتنا به فإنه كان قليلًا فقد أصبحنا جياعًا. ففعل تمليخا كما كان يفعل، ووضع ثيابه، وأخذ الثياب التي كان يتنكّر فيها، فأخذ ورقًا من نفقتهم الّتي كانت معهم التي ضربت بطابع دقيانوس، وكانت كخفاف الربع.
فانطلق تمليخا خارجًا فلمّا مّر بباب الكهف رأى حجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها، ثمّ مّر فلم يبالِ بها، حتى أتى باب المدينة مستخفيًا يصدّ عن الطريق تخوّفًا أن يراه أحد من أهلها فيعرفه فيذهب إلى دقيانوس، ولا يشعر العبد الصالح أن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة.
فلما رأى تمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان، فلمّا رآها عجب وجعل ينطر إليها مستخفيًا، فنظر يمينًا وشمالًا ثمّ ترك ذلك الباب فتحوّل إلى باب آخر من أبو ابها فنظر فرأى مثل ذلك، فجعل يخيّل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرف ورأى ناسًا كثيرًا محدثين لم يكن رآهم قبل ذلك، فجعل يمشي ويعجب ويخيل إليه أنه حيران، ثمّ رجع إلى الباب التي أتى منها، فجعل يتعجب منه ومن نفسه ويقول: ياليت شعري أمّا هذه عشية أمس فكان المسلمون يخفون هذه العلامة ويستخفون بها، فأما اليوم فإنها ظاهرة فلعلّي حالم ثمّ يرى أنه ليس بنائم، فأخذ كساءه فجعله على رأسه ثمّ دخل المدينة، فجعل يمشي بين ظهراني سوقها فيسمع ناسًا كثيرين يحلفون باسم عيسى بن مريم، فزادهُ فرقًا فرأى أنه حيران، فقام مسندًا ظهره إلى جدار من جدر المدينة ويقول في نفسه: والله ما أدري ما هذا، أمّا عشية أمسِ فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلاّ قتل، وأمّا الغداة فأسمعهم وكلّ إنسان يذكر أمر عيسى ولا يخاف.
ثمّ قال في نفسه: لعلّ هذه المدينة ليست بالمدينة التي أعرفها اسمع كلام أهلها ولا أعرف أحدًا منهم والله ما أعلم مدينة قرب مدينتنا فقام كالحيران لا يتوجّه وجهًا، ثمّ لقي فتىً من أهل المدينة، فقال: ما اسم هذه المدينة يا فتى؟ قال: دفسُوس. فقال في نفسه: لعل بي مسًّا أو أمرًا أذهب عقلي، والله يحقّ لي أن أُسرع بالخروج منها قبل أن أُخزى أو يصيبني شر فأهلك.
هذا الذي حدّث به تمليخا أصحابه حين تبين له حالهم. ثمّ إنّه أفاق فقال: والله لو عجّلت الخروج منها قبل أن يفطن بي لكان أكيس بي. فدنا من الذين يبيعون الطعام فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلًا منهم، فقال: يا عبد الله، بعني بهذا الورق طعامًا. فأخذها الرجل فنظر إلى ضرب الورق ونقشها، فعجب منها ثمّ طرحها إلى رجل من أصحابه، فنظر إليها. ثمّ جعلوا يتطارحونها من رجل إلى رجل، ويعجبون منها، ثمّ جعلوا يتسارّون من أجله، ففرق فرقًا شديدًا وجعل يرتعد ويظن أنهم فطنوا به وعرفوه، وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس، وجعل أُناس آخرون يأتونه فيتعرّفونه، فقال لهم وهو شديد الفرق: أفصلوا عليّ، قد أخذتم ورقي فأمسكوا، وأما طعامكم فلا حاجة لي به.